من دون الخوض في مدى مشروعية أو أخلاقية الطريقة التي تم من خلالها فض اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي بميداني رابعة العدوية والنهضة وما أعقب ذلك من اشتباكات دامية عمت مناطق شتى في أنحاء البلاد، ربما كان أبرزها وأشدها وطأة ما شهده مسجد الفتح بميدان رمسيس، تاركين القول الفصل فيها للتاريخ والضمير الإنساني، تلفت الانتباه أمور شتى يمكن استلهامها من الأزمة السياسية الطاحنة التي تعصف بمصر منذ الثالث من يوليو/تموز الماضي.
غياب الثقة
بجلاء لا يقبل التشكيك، سلطت تلك الأزمة الضوء على فجوة الثقة الشاسعة التي تلقي بظلالها على الفرقاء السياسيين في المشهد السياسي المصري.
بجلاء لا يقبل التشكيك، سلطت تلك الأزمة الضوء على فجوة الثقة الشاسعة التي تلقي بظلالها على الفرقاء السياسيين في المشهد السياسي المصري.
فعلاوة على انسداد كافة قنوات التواصل والحوار المباشرين فيما بينهم إلى الحد الذي جعلهم يتناقلون وجهات النظر والآراء والمقترحات عبر وسائل الإعلام أو من خلال أطراف داخلية وخارجية أخرى، احتكر الخارج وحده جل مبادرات التسوية وجهود الوساطة للخروج بالعباد والبلاد من غياهب النفق المظلم، حيث تبارى العرب والعجم في التقاطر على القاهرة والتوافد على أروقة السلطة ومحابس قيادات جماعة الإخوان المسلمين.
وبينما فشلت تلك الجهود العربية والمساعي الحميدة الدولية في احتواء الأزمة والحيلولة دون تفاقمها واتساع مداها الجغرافي والزمنى، إلا أنها نجحت بامتياز في وضعها على أول طريق التدويل، الذى يفتح بدوره الباب على مصراعيه أمام المزايدات الإقليمية والتدخلات الدولية المغرضة.
كما يمهد الأجواء لبلوغ فجوة الثقة بين فرقائها مبلغا يهدد سيادة الدولة المصرية وينأى بالجميع عن فرص النجاة من عنق الزجاجة الخانق، لا سيما بعد تيبس الروافد التي من شأنها أن تقود إلى أي حوار وطني أو توافق مجتمعي. الأمر الذى يقود في نهاية المطاف إلى ضياع فرص استكمال ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وبلوغ غاياتها، كما يفضي إلى تبدد الآمال في استزراع الديمقراطية في ربوع التربة المصرية العصية.
ويحضرني هنا ما سبق أن سطره المفكر الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما مطلع تسعينيات القرن الماضي في مؤلفه القيم المعنون بـ"الثقة"، من أنه لن يكون بمقدور أي مجتمع أن يمضي بثبات ونجاح صوب الديمقراطية والتنمية والاستقرار دونما توفر حد أدنى من الثقة بين أطيافه السياسية والمجتمعية من جانب، وبين المجتمع والدولة على الجانب الآخر.
النقد الذاتي
قد لا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى أن العرب، شعوبا وحكومات، لم يعرفوا النقد الذاتي حق المعرفة طوال تاريخهم السياسي المديد. وبوصفهم جزءا لا يتجزأ من نسيج ومكونات تلك المنظومة المجتمعية والسياسية بالطبع، لم تستثن أطراف الأزمة المصرية الراهنة، سواء تمثلوا في القوات المسلحة والإدارة الانتقالية ومؤيديهم من القوى المدنية والعلمانية والثورية من جهة، أو أنصار الرئيس المعزول من مختلف فصائل التيار الإسلامي أو أية أطياف سياسية مغايرة على الجهة الأخرى.
قد لا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى أن العرب، شعوبا وحكومات، لم يعرفوا النقد الذاتي حق المعرفة طوال تاريخهم السياسي المديد. وبوصفهم جزءا لا يتجزأ من نسيج ومكونات تلك المنظومة المجتمعية والسياسية بالطبع، لم تستثن أطراف الأزمة المصرية الراهنة، سواء تمثلوا في القوات المسلحة والإدارة الانتقالية ومؤيديهم من القوى المدنية والعلمانية والثورية من جهة، أو أنصار الرئيس المعزول من مختلف فصائل التيار الإسلامي أو أية أطياف سياسية مغايرة على الجهة الأخرى.
فعلى مدار تاريخها الذى ناهز الثمانية عقود، لم تركن جماعة الإخوان المسلمين إلى المراجعة أو النقد الذاتي، إذ قلما تعترف بخطأ ارتكبته، فلم تعتذر عن عمليات ما يعرف بالتنظيم الخاص، الذي نسبت إليه جرائم عديدة أبرزها اغتيال النقراشي والخازندار قبل ثورة يوليو/تموز، ولا عن محاولة بعض عناصر التنظيم الخاص اغتيال الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في 1954، حسبما أشيع وقتذاك، وأبت الجماعة إلا أن تنظر إلى نفسها من منظور المظلومية التاريخية كضحية لكافة الأنظمة السابقة.
ولا مراء إذن في أن جماعة الإخوان بحاجة ماسة إلى مراجعة فكرية وسياسية لا تسفر بالضرورة عن نهاية محققة لتنظيم دعوي وسياسي، لا يستهان به، بقدر ما تقود إلى تغييرات جذرية في مناهج تفكيرها وهيكلها التنظيمي، وأدوات عملها، كأن تقتصر على كونها حزبا سياسيا كبيرا ومعتدلا يحترم قواعد الدولة المدنية ويقوم بتأويل المرجعية الإسلامية باعتبارها مجرد نوع من المحافظة الأخلاقية، على شاكلة الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب الأوروبي.
هذه الأحزاب لا ترفض من جل القيم الديمقراطية سوى القضايا التي تجمع الأديان، وتكاد تجمع المجتمعات على رفضها كالشذوذ الجنسي والإجهاض، وربما يكون هذا السيناريو هو الأفضل للتجربة الديمقراطية المصرية الوليدة على الأقل في المرحلة الحالية.
وإلى جانب الضرورة الأخلاقية والفكرية، تفرض اعتبارات سياسية وأمنية إضافة إلى معطيات قانونية ملحة على جماعة الإخوان المسلمين، ضرورة ممارسة النقد الذاتي والمراجعة لإستراتيجياتها وآليات عملها.
فمؤخرا وعلى خلفية عزل الرئيس مرسي وتداعيات فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة، انطلقت حملات التشويه والشيطنة مصحوبة بدعوات رسمية وشعبية لاعتبار جماعة الإخوان جماعة إرهابية وإصدار قرار واجب النفاذ بحلها ولكن بشكل نهائي وبغير رجعة هذه المرة.
وحالة صدور هذا القرار بالفعل، فإنه سيكون الرابع من نوعه، حيث صدرت من قبل ثلاثة قرارات بهذا الخصوص، كان أولها عام ١٩٤٨، حينما رفع عبد الرحمن عمار، وكيل وزارة الداخلية لشؤون الأمن حينئذ، مذكرة إلى رئيس الحكومة ووزير الداخلية محمود فهمى النقراشي يؤكد فيها أن الجماعة تهدد الأمن القومي لمصر كونها ترمي إلى الوصول إلى الحكم بالقوة والإرهاب وتتخذ الإجرام وسيلة لتنفيذ أهدافها، على حد زعمه.
وفى الثامن من ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه أصدر النقراشي باشا قرار حل الجماعة، وهو القرار الذي كلفه حياته، حيث لقي حتفه رميا بالرصاص بعد عشرين يوما فقط على يد الطالب عبد الحميد حسين الذي أعلن في حينها أنه كان ينتمى لجماعة الإخوان!
وفيما جاء قرار الحل الثاني لجماعة الإخوان من قبل مجلس قيادة ثورة يوليو برئاسة اللواء أركان حرب محمد نجيب في ١٤ يناير/كانون الثاني ١٩٥٤، إلحاقاً بقرار حل الأحزاب السياسية الصادر في عام ١٩٥٣، كان قرار الحل الثالث أو ما عرف بـ "الحظر" قد صدر عقب اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات عام 1981 واستمر حتى سقوط مبارك في الحادي عشر من فبراير/شباط 2011.
وفى سياق ذي صلة، وتحديدا يوم 19 مارس/آذار الماضي، أوصى تقرير هيئة المفوضين بالمحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة بتأييد الحكم السابق صدوره من محكمة القضاء الإداري، أول درجة، بتأييد قرار مجلس قيادة الثورة لعام 1953 بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها، واعتبارها كيانا غير قانوني مع عدم قبول الطعون على الحكم.
وحينما حاولت الجماعة الخروج من هذا المأزق القانوني عبر إشهار جمعية أهلية في 19 مارس/آذار الماضي، لاحقتها مطالبات أخرى بحل هذه الجمعية الناشئة.
ففي مطلع شهر أغسطس/آب الجاري، أعلنت مصادر مطلعة داخل وزارة التضامن الاجتماعي أن الدكتور أحمد حسن البرعي، وزير التضامن، بصدد إصدار قرار بحل جمعية الإخوان المسلمين التي أسستها الجماعة في مارس/آذار الماضي، لتوفيق وضعها القانوني بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، استنادا إلى قرائن باستخدام مقر الجمعية في أغراض سياسية، وتشكيل تنظيم مسلح لمواجهة المتظاهرين ضدها.
وبالتوازي مع المطالبات المتواصلة بالإجهاز القانوني على أية كيانات تنظيمية أو مؤسسية تمُتّ إلى جماعة الإخوان المسلمين بأية صلة، جماعة كانت أو جمعية، شرعت دوائر غير رسمية، ليست بمنأى عن السلطة الحاكمة حاليا كجبهة الإنقاذ وحملة تمرد، علاوة على بعض التيارات المناهضة للجماعة في شن حملة دعائية محلية ودولية لحث كل من الدولة المصرية والمجتمع الدولي على إدراج جماعة الإخوان على قائمة المنظمات الإرهابية.
وبالتوازي مع المطالبات المتواصلة بالإجهاز القانوني على أية كيانات تنظيمية أو مؤسسية تمُتّ إلى جماعة الإخوان المسلمين بأية صلة، جماعة كانت أو جمعية، شرعت دوائر غير رسمية، ليست بمنأى عن السلطة الحاكمة حاليا كجبهة الإنقاذ وحملة تمرد، علاوة على بعض التيارات المناهضة للجماعة في شن حملة دعائية محلية ودولية لحث كل من الدولة المصرية والمجتمع الدولي على إدراج جماعة الإخوان على قائمة المنظمات الإرهابية.
تعاظم دور الخارج
من بين تداعيات سلبية عديدة تمخضت عنها الموجة الثورية التي شهدتها مصر في نهاية يونيو/حزيران الماضي وما استتبعته من تدخل فج ومربك للجيش في العملية السياسية، أطل تنامي دور الخارج برأسه في مجريات الشأن الداخلي المصري، سواء من خلال جهود الوساطة والمساعي الحميدة أو عبر ممارسة الضغوط والتهديدات، وذلك إثر تكالب أطراف وطنية عديدة على استدعاء جهات خارجية أو الاستقواء بها في معركة الصراع الدامي على السلطة والملتحف برداء الشرعية والديمقراطية وحماية الثورة.
من بين تداعيات سلبية عديدة تمخضت عنها الموجة الثورية التي شهدتها مصر في نهاية يونيو/حزيران الماضي وما استتبعته من تدخل فج ومربك للجيش في العملية السياسية، أطل تنامي دور الخارج برأسه في مجريات الشأن الداخلي المصري، سواء من خلال جهود الوساطة والمساعي الحميدة أو عبر ممارسة الضغوط والتهديدات، وذلك إثر تكالب أطراف وطنية عديدة على استدعاء جهات خارجية أو الاستقواء بها في معركة الصراع الدامي على السلطة والملتحف برداء الشرعية والديمقراطية وحماية الثورة.
وبجلاء يعكس جنوح بعض الأطراف لتدويل الأزمة مقدار اتساع فجوة الثقة بين الفاعلين السياسيين في مصر الثورة ومدى عجزهم عن تجاوزها عبر التوافق والحوار، كما تطوي بين ثناياها أيضا تداعيات سلبية للغاية على هيبة مصر وصورتها أمام العالم في هذا التوقيت الحساس، خصوصا في ظل ما يشاع عن تعسف مكاتب التحكيم الدولي ضدها عند تعاطيها مع دعاوى قضائية دولية عديدة.
فسياسيا، من شأن اللجوء إلى التحكيم والقضاء الدولييْن أن يغذي حالة الجفاء بين الفاعلين السياسيين في مصر ويقوض مساعي إرساء دعائم دولة القانون والمؤسسات في البلاد، كما سينال من مكانة مؤسساتها القضائية والسياسية والحقوقية العتيدة خلال المرحلة الانتقالية.
واقتصاديا، يحمل توجه كهذا بين طياته تأثيرات بالغة الخطورة على الاقتصاد المصري الراكد والمتدهور، ذلك أن صدور أية إدانات دولية في حق الدولة المصرية، سواء من جانب حكومات أو منظمات دولية أو حتى منظمات حقوقية غير حكومية، سيلقي بظلاله على النشاط السياحي كما الاستثمارات الأجنبية من مصر لأنه سيسيء إلى عراقتها أمام العالم كما سيولد مناخا من عدم الثقة واليقين في الاقتصاد المصري.
تصحيح المسار الديمقراطي
لعلنا لا نجانب الصواب إذا ما زعمنا بأن أحد أبرز بذور الأزمة السياسية الراهنة في مصر إنما يكمن في إساءة تعاطي المصريين جميعا مع مبدأ أن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها، فكل يفسره على هواه وبما يخدم مصالحه، حيث يرى الشرعية حيثما تكمن تطلعاته ومراميه.
لعلنا لا نجانب الصواب إذا ما زعمنا بأن أحد أبرز بذور الأزمة السياسية الراهنة في مصر إنما يكمن في إساءة تعاطي المصريين جميعا مع مبدأ أن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها، فكل يفسره على هواه وبما يخدم مصالحه، حيث يرى الشرعية حيثما تكمن تطلعاته ومراميه.
وقد ازدادت الأمور سوءا مع افتقاد الأطر الدستورية والقانونية للتجربة الديمقراطية الوليدة في مصر إلى الآليات الديمقراطية الكفيلة بترشيد العملية الديمقراطية وتصحيح مسارها عند أي انحراف أو اعوجاج، فضلا عن كبح جماح الحكومات والأنظمة المنتخبة بحيث لا تحيد عن قواعد اللعبة الديمقراطية وتتجاهل تطلعات ومطالب شعوبها بذريعة امتلاكها للشرعية وتقلدها للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية.
وإذا لم يكن هناك بد أمام النخب السياسية والفكرية عن ابتكار الآليات التي تدفع نحو مزيد من دمقرطة الديمقراطية أو تصحيح مسارها ومعالجة مثالبها بدلا من تشويهها أو إساءة استخدامها على غرار ما جرى في مصر يوم الثالث من يوليو/تموز الماضي، فإنه أحرى باللجنة المنوط بها تعديل المواد المختلف عليها في دستور الثورة لعام 2012 أن تقترح نصوصا واضحة، لا لبس فيها، تضمن التعاطي، على نحو دستوري وديمقراطي، مع رئيس أو نظام يفشل في أداء المهمة الوطنية الموكلة إليه على النحو الأكمل من دون افتئات على الآليات الديمقراطية.
فغالبية الدساتير تتضمن نصوصا توضح ما يجب اتخاذه من إجراءات حالة عجز الرئيس أو النظام عن أداء دوره لأسباب صحية أو اعتبارات تتعلق بالخيانة العظمى، لكنها لا تولي اهتماما مستفيضا بقضية الإخفاق في الأداء برغم انتفاء باقي الأسباب والاعتبارات المتضمنة بالدستور والتي تحول دون إكمال الرئيس لمدته الدستورية، كما لا تبتدع آليات ديمقراطية توصد الأبواب أمام أية إجراءات غير ديمقراطية كالانقلاب العسكري أو الاغتيال السياسي أو التمرد الذي يقود إلى إثارة الفوضى أو إشعال الحرب الأهلية.
وبرغم سحب العنف التي تلبد المشهد المصري وما أفرزته من دماء وآلام، ليس أمام المصريين من خيار بديل سوى مصالحة وطنية بين الفرقاء السياسيين تتأسس على عدالة انتقالية تمهد بدورها لتشكيل ترويكا سياسية تضم ممثلين عن كافة شركاء ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كتيار الإسلام السياسي والأطياف العلمانية وشباب الثورة وحركة تمرد، بحيث تدير البلاد إلى حين إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وتبرم عقدا اجتماعيا مع الجيش يتضمن أطرا دستورية ترسم ملامح وحدود دوره في حماية السلم المجتمعي ورعاية عملية الانتقال الآمن نحو الديمقراطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق