قبل 8 سنوات، وفي 18 من يونيو 2006 ، رحل "أحمد نبيل
الهلالي" ناثرا عطر 84 سنة من النبل (ولد في أغسطس من العام 1922) وطيف رجل
قطع رحلته كالرمح: صلبا ومحددا.
عرفته في تسعينيات القرن الماضي، في جريدة "الشعب" وهي
مطاردة من سلطة، كان "الهلالي" في مواجهتها طوال حياته، وكانت الجريدة
أقوى الحراب التي تصدت لها. وأدركت أن المحامي، ابن الباشا "أحمد نجيب
الهلالي" الذي كان رئيسا لوزراء مصر، لم "يخن" طبقته عندما أصبح
يساريا، بل "أخلص" لإنسانيته.
وكان تأسيسه لحزبه السري "حزب الشعب الاشتراكي" في العام
1987 ملخصا لما عاش من أجله، فبه أعلن "القطيعة" مع الحزب الشيوعي،
مخرجا إلى العلن قضية لم تكن شخصية أبدا، وهي الخلاف على "بوصلة"
التحالفات، التي كان الهلالي" يقيمها على أساس "السياق الفكري"
وكان حزبه السابق "الشيوعي" يقيمها على أساس "المصلحة" لهذا
كان رفضه ـ قاطعا ـ للتحالف مع النظام، الذي أقامه الحزب بدعوى مواجهة من سماهم
"قوى الرجعية" ـ والمقصود بهم الإسلاميين وحدهم وحصريا ـ مدعيا أن
"فساد" النظام أهون من "ظلاميتهم" وهو الادعاء نفسه الذي
يتكرر الآن، بعد أن انتقل من أروقة العمل السري إلى صدر صفحات الصحف وشاشات
التليفزيون، لنرى كثيرين يبررون دعمهم لسلطة "السيسي" بأن "الفساد
عرفناه وألفناه لكن كله إلا الإخوان". موقف "انتهازي" ما كان يمكن
لـ"نبيل الهلالي" إلا أن يكون نقيضا له، معلنا ـ على العكس ـ أن
الإسلاميين وليس النظام هم من يمكن العمل معهم.
هذا هو "درس" نبيل الهلالي" الذي أحسب أن القوى
السياسية في مصر في حاجة إليه كلها، وليس "اليسار" وحده، خاصة وهذه
القوى تحاول إنقاذ ثورة دفع فيها الجميع من دمه، بقدر ما علق الجميع عليها آمال
مستقبله.
وفي الكلمة التي ألقاها الأستاذ "أحمد نبيل الهلالي" في 15
من أكتوبر 2005، أي قبل رحيله بشهور، في الاحتفالية التي أقامها "صالون
النديم" بالقاهرة تكريما لعطائه، ونشرتها جريدة "الوقت" البحرينية
بعد أيام من ذلك الرحيل، في 23 من يونيو 2006، يلخص "الهلالي" درس حياته
هذا بأوضح عبارة وأوجزها حيث يقول:
ما يحتاج إلى تفسير مشاركتي في الدفاع في قضايا الجماعات الاسلامية،
رغم التناقضات الجذرية بين أفكاري وأفكارهم. لقد أثار موقفي هذا أيضا علامات
استفهام عند البعض، وأمارات استهجان عند آخرين، حتى إن بعض الزملاء اليساريين ـ
سامحهم الله ـ اتهموني بأنني بذلك أقدم الدعم القانوني للإرهاب الديني. والقضية في
جوهرها أوضح من الاحتياج لأي توضيح، إلا أنني أسلم بأنها في مظهرها قد تثير الحيرة
والالتباس عند بعض الناس؛ لذلك فأنا ألتمس العذر لكل من تعجب وتساءل واستهجن،
وأقول لهؤلاء : إن موقفي بداية ينطلق من إيماني العميق الذي لا يتزعزع يوما، ولن
يتزعزع دوما، بأنه في مجال حقوق الانسان لا مكان للانتقائية في المواقف
والازدواجية في المكاييل. فهناك فقط موقف مبدئي واحد وأصيل هو الدفاع عن حقوق كل
إنسان، أي انسان، أيا كانت عقيدته الدينية أو اعتقاده السياسي أو منطلقه
الأيديولوجي. الدفاع عن الانسان المجرد، وليس الإنسان المصنف الذي يشاركني
الانتماء والتوجهات.
وفي مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، فإن المعيار الأوحد الذي يحدد من
هو الإنسان هو إنسانيته وليس دينه ولا لونه السياسي ولا أيديولوجيته. وأنا لم أتوصل
إلى هذه القناعة باختيار فكري فحسب، وإنما هذه القناعة تولدت لدي من دروس الحياة
التي تؤكد أن التغاضي، أو السكوت، عن أدني انتهاك لحريات الآخرين، حتى لو كانوا
منافسين سياسيين أو خصوما سياسيين أو حتى أعداء سياسيين، مثل هذا التغاضي هو سهم
لابد أن يرتد إلى صدر المتغاضي، لأنه يسهل علي الدولة البوليسية إرساء قاعدة سرعان
ما تعمم علي الجميع، وتكريس نهج سرعان ما تصيب لعنته الجميع. لذلك لا يجوز، أيها
الإخوة، التعامل مع أي إهدار لحريات خصومنا السياسيين بمنطق "بركة
ياجامع" ولا بمفهوم "اللي بعيد عن رأسي أهز له كتافي".
لقد لقنت مدرسة الحياة الشيوعيين المصريين درسا لا يجب نسيانه، سواء
من الشيوعيين أو غير الشيوعيين. ففي أواخر الخمسينيات أصدر الحاكم العسكري أمرا
عسكريا يبيح له تشغيل المعتقلين أشغالا شاقة داخل المعتقلات. ولا بد أن أعترف بأن
الشيوعيين واليساريين والديمقراطيين تعاملوا وقتها مع هذا الأمر العسكري باستخفاف،
توهما منهم بأنهم غير مخاطبين به، لا في الحال ولا في الاستقبال، وأنه صدر للتعامل
مع المعتقلين من الإخوان المسلمين. ودرات دورة الزمان، فإذا بالأمر العسكري
المذكور يطبق لأول مرة ـ ولآخر مرة ـ علي المعتقلين الشيوعيين واليساريين
والديمقراطيين داخل سجن "أوردي أبو زعبل" في أواخر العام 1959.
وأرجو كل الرجاء، ونحن هذه الأيام علي أعتاب صدور قانون جديد لمكافحة
الإرهاب، ألا نعيد ارتكاب الخطأ السابق، وأن نقف صفا واحدا في وجه من أصدر هذا
القانون، حتى لو تعللت الدولة البوليسية بأن إصداره يمثل ضرورة لحماية الديمقراطية
من شرور الإرهابيين. هذه ضجة فارغة خادعة، وهي أشبه بما ردده تجار الحروب يوما عن
"القنبلة النووية النظيفة" وما أصدق مقولة الفقيه "تشافي"
التي قال فيها:" لم تخترع حتى الآن بندقية تقتل الذئب المتنكر في ثوب حمل،
ولا تقتل الحمل نفسه ".
انتهى كلام "أحمد نبيل الهلالي". فلا تخبروه بأن
"رفاقه" خيبوا رجاءه، وارتكبوا الخطأ السابق، وأفدح، بدعمهم قانونا أشد
جورا، وسلطة عسكرية أشد عسفا.
يرحم الله "أحمد نبيل الهلالي" قولوا: آمين.
إقرأ
المزيد فى : www.facebook.com/mkalatkom
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق